سيستان الإيرانية.. مهد أول فن إيمائي في العالم ينبض بالحركة والصمت

يمكن اعتبار «أسولورو» الشكل الشعبي والحَيّ للفن الإيمائي أو التمثيل الصامت، وهو عرضٌ تلقائيّ الجذور مستمدّ من الطقوس القتالية والاحتفالات الجماعية في ثقافة سيستان شرق إيران.

– سيستان، مهد البطولة والحكمة، ليست فقط أرض أبطال الشاهنامة، بل أيضاً منبع الفكر والطقوس والفنون المسرحية القديمة. فهذه الحضارة التي نشأت على ضفاف بحيرة هامون ونهر هيرمند، أنتجت منذ آلاف السنين قبل الميلاد نماذج مبكرة من الألعاب الذهنية والبصرية، مثل لعبة النرد القديمة «سر و دمّ مار» التي تُعد أول لعبة فكرية في التاريخ، ورسوم الإناء المتحرّك في مدينة شهر سوخته، أقدم مشهدٍ متحرك (أنيميشن) معروف للبشرية. ومن الطبيعي في هذا السياق أن تتكوّن لغة الحركة والتقليد والعرض الصامت بين سكان هذه المنطقة قبل غيرهم.

في التراث الشعبي للأطفال في سيستان، توجد لعبة قديمة تُعرف باسم «أسولورو»؛ يجلس فيها القائد أو «الشيخ الحكيم» في الوسط، فيما ينحني أحد الأطفال على الأرض، ويجلس على ظهره طفل آخر يُلقّب بـ«شيطان الجهالة»، أي رمز الجهل الذي يعتلي غير العالم. يُغمض عيني اللاعب، فيما يلتفّ باقي الأطفال حولهم مردّدين بإيقاع مرح:

«أسولورو، أُذُنُكَ…

أسولورو، قَدَمُكَ…

أسولورو، أَنفُكَ…»

وفي كل مقطع يُشير الأطفال إلى العضو المذكور بحركة جسدية: يمسكون الأذن، يضربون الأرض بأقدامهم، يلمسون أنوفهم، ويضحكون بانسجام. في الظاهر، لعبة بريئة مرحة، لكنها في جوهرها عرض حركي صامت يقوم على لغة الجسد والتقليد والإيقاع والتناغم، أي ذات العناصر الأساسية لفن البانتوميم الحديث.

هذا التقليد الشعبي يمثل أثراً من زمنٍ كانت الحركة فيه أداة للتعبير والمعنى قبل ظهور اللغة. لذا يمكن القول إن «أسولورو» هو أقدم شكلٍ حيّ للبانتوميم، نشأ من صلب الطقوس السيستانية ذات الطابع القتالي والاحتفالي.

في الأساطير الإيرانية، تُعدّ سيستان موطن الملوك الكيانيين مثل كي‌ قباد وكي‌ كاووس وكي‌ خسرو وكي‌ كشتاسب، الذين ربطتهم النصوص الزرادشتية والشاهنامة بـ«المجد الإلهي» والحكمة والسيادة العادلة. وتشير الدراسات التاريخية إلى أن الحقبة الأخمينية ورثت الكثير من رموز الفكر والطقوس الكيانية القادمة من شرق إيران (سيستان وبلخ)، لتنتقل لاحقاً إلى عموم الحضارات القديمة من فارس إلى بلاد الرافدين ثم اليونان.

ومع هذا الامتداد الثقافي، انتقلت مفاهيم العروض الحركية الصامتة من شرق إيران إلى الغرب، لتجد صداها في المسرح الإغريقي الذي عُرف فيه البانتوميم كفنّ يعتمد الحركة والتقليد لنقل المعنى دون كلام.

وعليه، يمكن النظر إلى سيستان بوصفها المهد الأول للفن الإيمائي في التاريخ، حيث سبق إنسان هامون في التعبير بالجسد عن الفكر، قبل أن يتكلّم الإنسان الإغريقي بالمشهد.

فمن رحم تلك اللعبة الطفولية البسيطة وُلدت فلسفة الفن الحركي، ومن طقوس الملوك الكيانيين انبثقت فكرة الجمال المقرون بالمعنى، لتظلّ سيستان ـ أرض أسولورو المجد الإلهيـ أول موطن للحركة والمعنى في أرض إيران والعالم القديم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *