86
حمدي العطار
في عالم يموج بالمسافات والحدود، تبقى الثقافة وحدها القادرة على تقصير المسافات وبناء الجسور بين الشعوب. ومن هذا الإدراك العميق، ولدت مبادرة “إيران في دقائق” التي أطلقتها المستشارية الثقافية للجمهورية الإسلامية الإيرانية في بغداد، لتكون مساحة لقاءٍ إنساني قبل أن تكون فعالية معرفية، ونافذة يطل منها العراقيون على عمق الحضارة الإيرانية وثرائها.
افتتح البرنامج يوم الأحد 30 أغسطس 2025 في مقر المستشارية ببغداد، بحضور نخبة من الأساتذة الجامعيين والطلاب والأدباء والمهتمين بالشأن الثقافي، حيث بلغ عدد المشاركين نحو 55 شخصا. وقد تولت تقديم وإعداد البرنامج الدكتورة رغد حسين، على أن يعقد هذا الحدث مرتين في الشهر بشكل منتظم، بهدف تقديم صورة معاصرة وواقعية عن إيران وثقافتها المتنوعة.
* محاور الجلسة الافتتاحية
جاءت الجلسة الأولى حافلة بالتفاعل والحماس، إذ تنقلت بين موضوعات متعددة، منها: اللغة الفارسية وآدابها، تاريخ إيران الغني بالأحداث، التعريف بمدنها ومحافظاتها، العادات والتقاليد الشعبية، إضافة إلى الفنون والموسيقى، الجامعات والإنجازات العلمية والطبية، فضلاً عن الشخصيات الأدبية والشعرية والسينما الإيرانية الحديثة.
ولم يقتصر البرنامج على الطابع التعريفي، بل اتخذ منحى تفاعليا من خلال مسابقات لإلقاء الشعر وقراءة نصوص مرتجلة، إلى جانب ألعاب لغوية باللغة الفارسية، وهو ما أضفى أجواء مرحة وشجع الحاضرين على المشاركة الفعالة، لتغدو الجلسة تجربة ثقافية مشتركة تتجاوز حدود المحاضرة التقليدية.
* فعاليات مرافقة: معرض وورشة خط
رافق البرنامج معرض ثقافي شامل بعنوان “إيرانيات”، هدف إلى تقديم صورة بانورامية عن إيران من خلال لوحات تعريفية وكتب حول التاريخ والمعالم السياحية والآثار القديمة، إلى جانب عرض لأعمال فنية تراثية بارزة، خاصة لوحات الفنان الراحل محمود فرشجيان التي نالت إعجاب الزوار. وقد عكس المعرض عمق الجمال الإيراني في تاريخه وفنونه، وفتح بابا أوسع للتقدير المتبادل.
كما نظمت المستشارية ورشة خاصة بفن الخط العربي، أتاحت للحضور فرصة عملية للتعرف على أساليب هذا الفن الأصيل وتجربة الكتابة بالقلم، ما أضفى بعدا عمليا وجماليا على الفعالية.
* خطوة على طريق الدبلوماسية الثقافية
يمثل برنامج “إيران في دقائق” جهدا ملموسا في إطار الدبلوماسية الثقافية، إذ يسعى إلى تعميق أواصر الصداقة بين الشعبين الإيراني والعراقي، وفتح مساحات جديدة للحوار والتبادل المعرفي. فهو لا يقتصر على التعريف بإيران كحضارة، بل يمد جسورا إنسانية وثقافية تمهد لعلاقات أكثر عمقا بين البلدين.
وقد حظي هذا الحدث بتغطية إعلامية من مختلف وسائل الإعلام العراقية، ما يعكس أهميته كخطوة مؤثرة في المشهد الثقافي المحلي.
* خاتمة
إن “إيران في دقائق” ليست برنامج ثقافي، بل هي لحظة تلاقي بين قلبين وشعبين، ورحلة قصيرة بالدقائق لكنها طويلة الأثر في الذاكرة والوجدان. ففي كل كلمة تقال، وكل لوحة تعرض، أو بيت شعر يتلى، يتجلى معنى الإنسانية المشتركة التي تتجاوز الجغرافيا والسياسة، لتؤكد أن الثقافة قادرة على مد الجسور حيث تعجز الوسائل الأخرى.
وهكذا، تغدو هذه المبادرة وعدا متجددا بأن الحوار الإنساني سيبقى أقوى من العزلة، وأن بغداد ستظل تحتضن النوافذ التي تطل منها على العالم بروح مشرقة وعقل منفتح.