نظامی کنجوی؛ الشاعر الذی اعتبر "إیران" قلب العالم

في خضم الصراع بين “الإسلام والكفر” وأثناء أتون الحروب الصليبية، كان نظامي يرى أن “إيران” هي قلب العالم، ويقول: “العالم كله جسد، وإيران قلبه”، وهي عبارة لم تلقَ هوى في نفوس الكثيرين.

وأفادت وكالة تسنيم الدولية للأنباء بأن نظامي كنجوي يُعد شاعر الابتكار والريادة، فقد كان أول من أدخل فن الخمسة الشعرية (خمسه‌سرايي) إلى الأدب الفارسي. ورغم أن تقليد كتابة المجموعات الخماسية يعود بجذوره إلى ما قبل الإسلام وإلى الحضارة الهندو-إيرانية، إلا أن نظامي هو من أرسى دعائم هذا الأسلوب في الأدب الفارسي، وكذلك في الأدبين الأردي والتركي، حتى أصبحت أعماله تُعرف باسم “الكنوز الخمسة” (پنج گنج).

حكيم الشعر وسيد القصص

وُلِد جمال الدين أبو محمد إلياس بن يوسف نظامي، الشاعر والقصّاص البارع في القرن السادس الهجري، نحو عام 535 أو 537 هـ في مدينة كنجه بأذربيجان. فقد والده وهو طفل صغير، فتربّى في كنف خاله. المعلومات المتوفرة عن حياته قليلة، لكن أشعاره تبوح ببعض أسرارها، فهو يذكر أن والدته رئيسه كانت من سلالة النبلاء الأكراد، وبفضل ثروتها استطاع تلقي العلوم التي كانت سائدة في عصره. أما والده، فقد كان من طبقة الدهقانين (ملاك الأراضي) مثل فردوسي، وكان يمتلك أراضي شاسعة. وقد أشار إلى ذلك في منظومته ليلى ومجنون، حيث قال:

دهقانٌ فصيحٌ فارسيُّ المولد،

يروي عن حالِ العربِ هذا القول

بلغ نظامي بفن الحكاية الشعرية أسمى مراتب الإبداع، فقد كان صاحب مدرسة مستقلة ميزته عن غيره، حتى عُدَّت قصائده الغنائية والعاشقة من روائع الأدب العالمي. وما يميّز شعره هو تشبيهاته واستعاراته المبتكرة التي أضفت على كلماته رونقًا خاصًا، حيث استطاع أن يبرع في رسم الصور الشعرية والتصوير الفني للطبيعة وتجسيد الشخصيات، ما جعل أسلوبه مصدر إلهام للشعراء من بعده.

سحر شيخ كنجه

تمتلئ أشعاره بالمصطلحات العلمية، مما يكشف عن سعة اطلاعه وإلمامه بمختلف العلوم، بدءًا من الفلسفة والرياضيات، مرورًا بـ الموسيقى والفلك، ووصولًا إلى العلوم الدينية. كما تتجلى في منظوماته أفكار عميقة ذات طابع عرفاني وفلسفي، تعكس رؤيته للحياة والكون، لتظل كلماته شاهدة على عبقرية شاعر جمع بين الجمال والحكمة في آنٍ واحد.

الفصاحة والبلاغة جنبًا إلى جنب مع الحكمة والعقلانية جعلت من “الكنوز الخمسة” (پنج گنج) على مدى قرونٍ قبلةً لآمال الشعراء، حيث امتلأت صفحات التاريخ الأدبي بشعراء وأدباء كرّسوا جهدهم لمحاكاة هذا الأثر الخالد. ورغم نجاح البعض في الاقتراب من وهجه، إلا أن أسماؤهم بقيت في ظلال شيخ كنجه، الذي ظلَّ اسمه متوهجًا عبر العصور. فقد كُتِبت منذ عصره العديد من ليلى ومجنون وخسرو وشيرين، حتى أن وحيد دستجردي ذكر أنه اطلع على أكثر من مئة خمسة ومئات من الشعراء الذين حاولوا تقليد خمسة نظامي، والمحفوظة في مكتباتٍ متفرقة.

رائد القصص الشعرية

تفوق نظامي على معاصريه في فن السرد الشعري، مما جعله يتربع على عرش فن الحكاية الشعرية في الأدب الفارسي. وبحسب الروايات التاريخية، فقد لاقت أولى منظوماته، “مخزن الأسرار”, اهتمامًا واسعًا منذ لحظة ظهورها، حيث سارع شعراء عصره إلى محاكاتها ونسج نظائر لها.

يقول حميد رضا شايكان‌ فر في دراسته عن خمسة نظامي: “يظهر من مواضع متفرقة في الخمسة أن نظامي وجد منذ حياته مقلدين كُثرًا، لكنهم لم يحاكوه حبًا بفنه، بل رغبةً في انتزاع نصيبٍ من شهرته، فحاولوا مجاراته في البلاغة والشعر.”

وقد أشار نظامي نفسه إلى هؤلاء المقلّدين، الذين لم يبلغوا شأوه، فقال ساخرًا:

إن نظمتُ الغزلَ بعذوبة،

رفعوا عقيرتهم بالخداعِ والمراوغة.

وإن نسجتُ القوافي بمتانة،

جاؤوا بعقودٍ واهيةِ البناء.

وإن قصصتُ الحكايا ببيانٍ فصيح،

لم يفعلوا إلا ترديد القصصِ كالببغاء!

أنا أضرب النقود على قالبٍ متين،

لكنهم يسكّون الدرهم، ولكن مقلوبًا.

لم يقتصر تأثير خمسة نظامي وحكاياته على الشعراء في الفضاء الثقافي الإيراني فحسب، بل امتد إلى لغات وثقافات أخرى، مما جعله رمزًا أدبيًا عالميًا. إلا أن شهرته وبراعته في فن الشعر جعلته محطَّ جدلٍ في العقود الأخيرة، حيث سعت بعض الدول المجاورة إلى نسبه إليها، في محاولةٍ لصياغة هوية جديدة له، وصلت إلى حد تغيير معالم ضريحه وإزالة البلاطات المزخرفة باللغة الفارسية التي كانت تزين قبره. ومع ذلك، فإن شواهد ودلائل عديدة في أعماله تحكي قصةً مختلفة. فليس فقط أن جميع منظوماته كُتبت بالفارسية، بل إن نزعة الاعتزاز بإيران في شعره جليةٌ بحيث يستحيل إنكارها.

إن حبَّ نظامي لإيران، في خضمِّ الحروب الصليبية، وفي مدينةٍ كانت حدًّا فاصلاً بين “الإسلام والكفر”، حيث كانت النزعة الدينية طاغيةً على كل شيء، يشكّل في حد ذاته ظاهرةً لافتة. في كتابه “نظامي وهفت بيكر”, يرى سيروس شميسا أن نظامي، خلافًا للنهج السائد في مدينته، كان يحمل اهتمامًا عميقًا بإيران القديمة، مستلهمًا تراثها في قصائده، في دلالةٍ واضحة على تعلّقه بهويته الفارسية رغم تحولات عصره.

العالمُ جسدٌ، وإيرانُ قلبُه

كان نظامي يرى أن مدينة كنجه، في عصره، كانت بمثابة الحدّ الفاصل بين المسيحية والإسلام، بل ويمكن اعتبارها إحدى جبهات المواجهة الأولى في الحروب الصليبية. هذا الواقع جعل النزعة الدينية تطغى على أجواء المدينة، حيث كان الدين هو العامل الأبرز في تشكيل هوية سكانها. ورغم أن نظامي نفسه كان رجلًا متدينًا، لم يعرف عنه تعاطي المُسكِرات كما تشهد على ذلك أشعاره، إلا أن حبه لإيران واهتمامه بتراثها القديم يبرز بوضوح في أعماله، إلى درجة أن هذا التوجه أثار حسد بعض معاصريه، وأوقعه في متاعب كثيرة.

يتجلى هذا الولاء لإيران في أبياته الشهيرة من “شرف‌ نامه”، حيث يصور إيرانَ كالقلب الذي يمنح الحياة للجسد، قائلًا:

العالمُ جسدٌ، وإيرانُ قلبُه،

وهل يخجل القائلُ من هذا التشبيه؟

فإن كانت إيرانُ قلبَ هذه الأرض،

فاليقينُ أن القلبَ خيرٌ من الجسد!

سرُّ خلودِ نظامي

أحدُ أهمِّ الأسباب التي جعلت نظامي يتفرّد بين الشعراء، ويبقى اسمه متألّقًا في سماء الأدب الفارسي، هو التزامه الاعتدالَ، وتجسيده للقيم الإنسانية والأخلاقية في منظوماته. لقد كان شاعرًا متديّنًا، يحمل حبًّا عميقًا لإيران، لكنّه لم يكن أسيرًا للتعصّب، بل كان ميزانُه العدلُ، وكلمتهُ الإنصافُ.

يؤكد إسماعيل آذر، الباحث وأستاذ الجامعة، على هذه السمة الجوهرية في أدب نظامي، في حديثه لوكالة تسنيم، قائلًا: “إحدى أبرز روائع نظامي العاطفية هي ليلى ومجنون. ورغم أنه يروي فيها قصةَ عاشقين عربيين، إلا أن سحر كلماته يجعل أيّ قارئ يشعر وكأنه بطل القصة. إن عبقرية نظامي تكمن في قدرته على تصوير المشاعر ببراعة، حتى إنَّ بيتًا واحدًا من شعره يعادلُ لوحةً فنيةً متكاملة.”

ويصف نظامي مشهدًا من شوق العاشقين في أبياتٍ أخّاذة، تجعل القارئ يتلمّس العاطفة بكلِّ حواسه:

ليلى تمرُّرُ مشطًا على خصلاتها،

ومجنونُ ينظمُ دُرَّ الدموعِ حبّاتٍ حبّات.

ليلى تحمل قارورةَ المسكِ بين يديها،

ومجنونُ لا يسكرُ من خمرٍ، بل من عطرِها الفوّاح!

بحسب ما ذكره آذر، فإن نظامي قد قدم في أشعاره نظرة رقيقة ومعمّقة تجاه المعارف الدينية وآيات القرآن الكريم، حيث كان دائمًا ينقُل عبر قصائده قيمًا أخلاقية عميقة تحاكي الفطرة الإنسانية السليمة. على سبيل المثال، في قصيدته “خسرو وشيرين”، عندما ترى شيرين جسد خسرو بلا حياة، وتضع رأسها على جسده، فتسلّم نفسها للقدر، يقول:

طوبى لشيرين ولموتها الجميل،

طوبى لتلك الروح التي صعدت

ففي الحب، لا بد من الفناء

ويجب أن تُسلم الروح إلى المحبوب بهذه الطريقة…

ويُكمل آذر حديثه، مشيرًا إلى أن “مخزن الأسرار” هي واحدة من أعظم أعمال نظامي التي تزخر بالحكمة والعمق الفلسفي، حيث لا يكتفي بنقل الحكمة فحسب، بل يعمد إلى إدخال القصص والحكايات التي تعزز المعنى وتحث على التأمل.

ويستمر آذر في تأكيد أن بعد مرور قرونٍ على شعر نظامي، فإن كلامه لا يزال يحمل دروسًا قيّمة يمكن أن تكون نبراسًا للأجيال الشابة، مؤكدًا أن أعماله مليئة بالحكمة، والعشق، والتنوير، وهي لا تزال تثير التأمل في كل جيل.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *